في قلب القاهرة التاريخية، وعلى بعد خطوات من باب الفتوح، يقف شامخًا جامع الحاكم بأمر الله، واحد من أقدم وأعظم مساجد القاهرة الإسلامية، وسجلٌ معماري ينبض بتاريخ الدولة الفاطمية وعمارتها الفريدة.
تاريخ تأسيس الجامع: إرث فاطمي خالد
بدأ بناء الجامع في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله عام 379هـ (989م)، واستكمل في عهد ابنه الحاكم بأمر الله سنة 403هـ (1013م)، الذي نسب إليه المسجد رغم أنه لم يشهد سوى استكماله. وكان الهدف من إنشائه أن يكون مسجدًا جامعًا يخدم سكان القاهرة، التي كانت وقتها عاصمة الدولة الفاطمية الناشئة.
وقد بُني الجامع على نمط جامع الأزهر، لكنه جاء أكبر حجمًا وأكثر فخامة، فاحتل موقعًا مميزًا عند مدخل القاهرة الشمالي، ملاصقًا لأسوارها العريقة وباب الفتوح.
ينتمي المسجد للطراز الفاطمي، ويُعد من أوائل المساجد التي استخدمت العقود المدببة والأعمدة الرخامية المزخرفة، والتي أصبحت لاحقًا عناصر معمارية أساسية في عمارة المساجد الإسلامية.
يتميز جامع الحاكم بأمر الله بمساحته الشاسعة، إذ تبلغ مساحته أكثر من 13 ألف متر مربع، ويتوسطه صحن واسع تحيط به أربعة أروقة، أكبرها رواق القبلة. وتُعد الواجهة الخارجية للمسجد من أجمل عناصره، حيث تحتفظ بمئذنتين فاطميتين فريدتين، محاطتين بكتل حجرية مربعة أُضيفت في عصر لاحق لحمايتهما.
ويُلاحظ في تصميمه تأثر واضح بجامع “أحمد بن طولون”، خاصة في نظام الفناء المكشوف والمحراب المجوف، لكن الجامع الفاطمي يتفرد بزخارفه وخطوطه الرشيقة التي تعكس فلسفة فنية وروحية.
على مر العصور، تعرض الجامع لإهمال وتحولات عدة؛ فقد استخدم في بعض الفترات كمخزن، وثكنة عسكرية، ومدرسة، ودارٍ للكتب. إلا أن أهم مراحل الترميم جاءت في العصر الحديث، على يد جماعة البهرة الإسماعيلية، التي أولته اهتمامًا كبيرًا منذ خمسينيات القرن الماضي.
قامت الجماعة، بإشراف الحكومة المصرية، بترميم المسجد ترميمًا شاملًا، شمل إعادة بناء المئذنتين، وتجميل الصحن، وتجديد الأعمدة والأسقف. وبفضل هذا الجهد، عاد المسجد ليؤدي دوره الديني والثقافي، وأصبح قبلة للزوار والباحثين عن جماليات العمارة الإسلامية.
اليوم، يُعد جامع الحاكم بأمر الله واحدًا من أهم المزارات السياحية والدينية في القاهرة الفاطمية. يتوافد عليه السياح من مختلف الجنسيات، يلتقطون الصور بين أعمدته، ويقفون مبهورين بجمال نقوشه، ويستشعرون عبق أكثر من ألف عام من التاريخ.
كما يُستخدم المسجد في صلاة الجمعة وصلاة التراويح في رمضان، ويُقام فيه أحيانًا ندوات ثقافية ودينية تُعيد إحياء رسالته كمركز إشعاع حضاري.
جامع الحاكم بأمر الله ليس مجرد مبنى أثري، بل شاهد على عظمة العمارة الإسلامية، ودليل على قدرة المصريين على الحفاظ على تراثهم عبر الزمن. من بين أزقة القاهرة القديمة، يروي هذا الجامع قصة حضارة سادت، وازدهرت، وما زالت تنبض في حجارة شاهدة على مجدٍ لا يزول.
مشاركة
إرسال التعليق