من الأندلس إلى الصين: رحلة الفن الإسلامي عبر قاعات المتحف
في قلب القاهرة، حيث تتقاطع الأزمنة وتتقاطع السلالات والثقافات، ينتصب متحف الفن الإسلامي كمنارة شاهقة للفن والمعرفة والتاريخ. وعلى مقربة من ميدان باب الخلق، الذي شهد قرونًا من التحولات السياسية والاجتماعية، يقف هذا المتحف العريق ليُعلن عن أحد أهم كنوز الحضارة الإسلامية وأثرًا ناطقًا على تطور الفن والعمران والعقيدة في قلب العالم الإسلامي.
الموقع: حيث تتلاقى الذاكرة بالعمران
يقع متحف الفن الإسلامي في شارع بورسعيد بحي باب الخلق، على مرمى حجر من القاهرة الفاطمية والخديوية، في منطقة تجمع بين عبق الأزهر وسحر العمارة المملوكية وقلب المدينة الحديثة. ولا يُعد موقع المتحف عابرًا أو عرضيًا، بل اختيارًا دقيقًا يُجسد مركزية القاهرة في الفضاء الإسلامي كعاصمة للعلم والدين والفنون.
الواجهة المهيبة للمتحف، ذات الطراز المملوكي، تمزج بين النقوش الأرابيسكية والقباب الضخمة والأقواس الدقيقة، لتُمهّد للزائر رحلة فنية وروحية في قلب التاريخ الإسلامي.
النشأة والتطور: من فكرة أوروبية إلى مؤسسة مصرية
تعود فكرة تأسيس المتحف إلى عام 1869، في زمن الخديوي إسماعيل، بعد أن لاحظ المعماري النمساوي ماكس هرتس باشا – المسؤول عن الآثار العربية – تشتت التحف الإسلامية في المساجد والمقابر دون حماية أو تنظيم. فاقترح إنشاء دار لحفظ الآثار الإسلامية، وهو ما تحقق جزئيًا حين خُصص الإيوان الشرقي لجامع الحاكم بأمر الله كمقر مؤقت.
وبعد عقود من العمل، افتُتح المبنى الحالي للمتحف في 1903 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني تحت اسم “دار الآثار العربية”. وقد تمّ جمع آلاف القطع من شتى بقاع الدولة العثمانية ومصر والخلافات الإسلامية السابقة لتأسيس أول وأضخم متحف للفن الإسلامي في العالم.
وفي عام 1951، تغيّر الاسم إلى “متحف الفن الإسلامي” ليعكس بشكل أوضح تخصصه الفني والثقافي، بعيدًا عن المفهوم الأثري الضيق.
كنوز المتحف: من ضفاف الأندلس إلى أطراف الصين
يحتوي المتحف على أكثر من 100 ألف قطعة من الفنون الإسلامية المتنوعة، ما يجعله أغنى متحف متخصص في هذا المجال في العالم. ويغطي مقتنياته طيفًا زمنيًا وجغرافيًا هائلًا، يشمل بلاد الشام ومصر والعراق وإيران وتركيا والهند والمغرب العربي والأندلس، وتتنوع بين:
● المصاحف والمخطوطات:
مصحف عثماني على رق الغزال، يعود للقرن الأول الهجري، يُعد من أقدم المصاحف المعروفة.
مخطوطات طبية وفلكية تعود لعصور الخلافة العباسية والأيوبية.
● التحف المعدنية:
إبريق الخليفة الأموي مروان بن محمد، أحد أندر القطع المعدنية الإسلامية.
شمعدانات وسيوف ودروع مطعمة بالذهب والفضة، تعود للعصور المملوكية والعثمانية.
● الزجاج والخزف:
مشكاة السلطان حسن المصنوعة من الزجاج المموّه بالمينا والذهب.
بلاطات خزفية من العصر الفاطمي والعباسي.
● الخشب والنقوش:
أبواب مزخرفة من العصر الطولوني.
منابر ومسارج تحمل توقيعات حرفيين كبار من العهدين الأيوبي والمملوكي.
● الأسلحة والدروع:
سيف محمد الفاتح المستخدم في فتح القسطنطينية.
دروع مغولية وبيزنطية غنمت في حروب الدولة الإسلامية.
الضربة والتجديد: حين واجه المتحف الموت وقاوم
في صباح 24 يناير 2014، تعرض المتحف لواحدة من أكبر الكوارث الثقافية في العصر الحديث، حين انفجرت سيارة مفخخة أمام مديرية أمن القاهرة المجاورة، فتسببت في تدمير واجهة المتحف وتحطم أكثر من 160 قطعة أثرية، وتصدع المبنى بالكامل.
لكن الدولة المصرية، بدعم من منظمات دولية كاليونسكو والحكومة الإيطالية، أطلقت مشروع ترميم شامل استمر ثلاث سنوات، أُعيد خلالها ترميم القطع المتضررة بدقة علمية عالية، وتم تحديث منظومة العرض والإضاءة والتأمين.
وأُعيد افتتاح المتحف في يناير 2017 بحضور رسمي كبير، في لحظة رمزية لعودة الحياة إلى أحد أهم روافد الحضارة الإسلامية.
الأقسام الجديدة بعد الترميم
عقب التطوير، أعيد توزيع المقتنيات وفق تسلسل موضوعي وزمني، حيث جُهزت قاعات جديدة مثل:
قاعة السلاح: تعرض تطور الأسلحة الإسلامية منذ صدر الإسلام حتى العهد العثماني.
قاعة العملات: تضم دنانير وفلوسًا تعود لكل من الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين.
قاعة الخط العربي: توثق تطور الكتابة من الكوفي الجاف إلى النسخ والثلث والديواني.
وتوجد أيضًا قاعات متخصصة للفنون الإيرانية والمغولية، وأخرى للفن الإسلامي في الأندلس والمغرب.
التجربة التفاعلية: حين يتحدث التاريخ بلغة العصر
مع التطوير، أدخل المتحف أنظمة عرض تفاعلية باستخدام الشاشات الذكية، والدليل الصوتي متعدد اللغات، كما أُطلق تطبيق إلكتروني للتجول الافتراضي داخل المتحف، مما جعله أكثر جذبًا للزوار المحليين والأجانب والطلاب.
وقد صُممت بعض القاعات للأطفال، حيث تُقدم الورش الفنية والتجارب التفاعلية لتعليم الخط العربي وصناعة المشكاوات والزخارف الإسلامية.
الإحصاءات والاهتمام العالمي
يستقبل المتحف أكثر من 200 ألف زائر سنويًا، غالبيتهم من الأوروبيين والآسيويين المهتمين بتاريخ الفن الإسلامي.
أدرجت مؤسسة سميثسونيان الأميركية المتحف ضمن قائمة أهم عشرة متاحف للفنون الإسلامية في العالم.
يشارك المتحف دوريًا في معارض دولية، مثل “الإسلام والشرق” في برلين، و”فنون المماليك” في إسطنبول.
معلومات عملية للزيارة
العنوان: 4 شارع بورسعيد، باب الخلق، القاهرة.
مواعيد العمل: يوميًا من الساعة 9 صباحًا حتى 5 مساءً.
سعر التذكرة:
مصريون: 20 جنيهًا للكبار / 10 للطلبة.
أجانب: 340 جنيهًا للكبار / 170 للطلبة.
أقرب محطة مترو: العتبة (ومنها ركوب ميكروباص أو تاكسي إلى باب الخلق).
متحف ليس كبقية المتاحف
متحف الفن الإسلامي في القاهرة ليس مجرد مبنى أثري أو قاعة عرض لقطع قديمة، بل هو مدرسة تاريخية، وأرشيف مفتوح للحضارة الإسلامية، وشاهد على تعقيد وتنوع وثراء هذه الحضارة الممتدة من الأندلس إلى الهند. في زمن تتراجع فيه الذاكرة، وتهدد الصراعات المتاحف والكتب والمآذن، يقف هذا المتحف كخط دفاع أول عن هوية الأمة وجمالها الخالد.
فمن أراد أن يفهم روح الإسلام لا من كتب الفقه وحدها، بل من نبض الفنانين والمهندسين والخطاطين والصناع، فليبدأ رحلته من متحف الفن الإسلامي.
مشاركة
إرسال التعليق