مجد تاجر وزمن طراز… عمارة عدس أيقونة من زمن الفن الجميل

 

عمارة عدس… من أقمشة أوروبا إلى غبار النسيان

وسط صخب القاهرة الذي لا يهدأ، وعند تقاطع شارعي عماد الدين والألفي، تقف “عمارة عدس” كواحدة من أندر الشهادات الحية على عصر كانت فيه العاصمة المصرية مزيجًا متنوعًا من الأعراق والثقافات والأنماط المعمارية. بُنيت في قلب “وسط البلد” المزدحم، لتصير علامة بارزة لا في عمارة المدينة فقط، بل في سجلها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي.

موقع استراتيجي… وميراث فني

تقع عمارة عدس في رقم 10 شارع الألفي، على تقاطع حيوي مع شارع عماد الدين، في هذا الشارع، كانت تتلاقى مقاهي الفنانين، والمسارح، وصالات العرض السينمائي، مما منح العمارة مكانة استراتيجية فريدة جعلت منها مقصدًا للنخبة وصُنّاع الذوق العام في تلك الحقبة.

شُيّدت العمارة عام 1935، في موقع مسرح “الكورسال” الذي كان أحد أبرز مسارح القاهرة، والذي شهد عروضًا لنجوم أمثال نجيب الريحاني، يوسف وهبي، وسيد درويش. بعد هدمه، أُقيمت العمارة على أنقاضه، وكأنها استوعبت روح المسرح وفنه، وورثت طابعه الثقافي رغم اختلاف الوظيفة.

عائلة عدس… من يهود مصر إلى أساطير شارع عماد الدين

عائلة عدس، التي نسبت إليها العمارة، كانت واحدة من أشهر العائلات اليهودية في مصر خلال القرن العشرين. أسسها داوود عدس، تاجر الأقمشة وصاحب “شركة الأزياء الحديثة”، التي كانت تعتبر ثورة في عالم التسوق آنذاك.

اشتهرت الشركة بتقديم الأزياء الراقية المستوردة من أوروبا، وأدخل داوود عدس نظام البيع بالتقسيط، وهو ابتكار غير مسبوق في وقتها، جعل الموضة الأوروبية في متناول الطبقة الوسطى المصرية. لم تكن محلات عدس مجرد مكان للبيع، بل كانت أشبه بـ”صالة عرض” راقية للموضة والتصميم، تُدار بمعايير أوروبية.

أسهمت العائلة في أنشطة ثقافية واجتماعية، وكان لها إسهام غير مباشر في دعم الحياة الفنية في القاهرة من خلال رعايتها للفنانين واحتضانها للذوق العام الناشئ في ذلك الوقت.

هندسة العمارة… فن إيطالي في قلب مصر

صمّم عمارة عدس المعماري الإيطالي “ماركو أوليفيتي”، الذي اتسمت أعماله بدمج الكلاسيكية الأوروبية مع الروح الشرقية. واجهات العمارة مزيّنة بزخارف مستوحاة من فن الآرت ديكو، وتمتاز بتوازن بصري بين الخطوط الهندسية الصارمة والزخرفة الناعمة.

واجهتها الرخامية، ونوافذها ذات الأقواس المعدنية، والشرفات المزينة بالحديد المشغول، تمنحها حضورًا معماريًا لافتًا، بينما يختزل مدخلها الواسع إحساسًا بالثراء والرقي. العمارة كانت مؤلفة من عدة طوابق، تضم محال تجارية في الطابق الأرضي، ومكاتب في الطوابق العليا، وربما شققًا سكنية للنخبة.

أصداء ثقافية وتاريخية

اللافت أن عمارة عدس لم تكن فقط معلمًا معماريًا، بل حاضنة للثقافة والرموز الاجتماعية. إلى جانب محلات الأزياء، كانت العمارة تحتوي على مقاهٍ يرتادها الفنان نجيب الريحاني، وقد ورد في إحدى رواياته أنه كان يتناول طعامه هناك، في زمن كانت فيه القاهرة تتذوق الفن على موائد الطعام، وتناقشه في مقاهي المسارح.

كما كانت “إمساكيات رمضان” التي طبعتها الشركة مثالاً على التداخل بين التجارة والثقافة، حيث زُينت بالأدعية والرسوم والعبارات الدينية، ما جعلها من مقتنيات البيوت المصرية لسنوات.

من الازدهار إلى الإهمال… مصير مجهول لمعمار مدهش

مثل كثير من مباني وسط البلد، لم تسلم عمارة عدس من تراجع حالها مع تحولات القاهرة في النصف الثاني من القرن العشرين. بعد تأميم أصول اليهود في الخمسينيات، غادرت العائلة مصر، وأُغلقت محالها بالتدريج حتى أغلقت نهائيًا عام 2010.

اليوم، تتقاسم العمارة مصير الكثير من معالم القاهرة الكلاسيكية: واجهات متآكلة، محال حديثة بلا روح سكنت الطابق الأرضي، وفقدان تدريجي لذاكرتها البصرية. لا لافتة تروي حكايتها، ولا لوحة تُعرّف الزائر بما كان هنا.

لماذا يجب إنقاذ عمارة عدس؟

إن الحديث عن عمارة عدس ليس مجرد نوستالجيا، بل جزء من مهمة وطنية للحفاظ على هوية القاهرة. فالمباني ليست فقط أحجارًا صامتة، بل أرشيفات معمارية حية تسجل أنماط العيش، ومزاج المدن، وتنوعها الثقافي.

في بلد تسعى لاستعادة روح وسطها التاريخي، فإن عمارة عدس تصلح أن تكون نموذجًا يحتذى في الترميم والتوظيف الثقافي. يمكن تحويلها إلى متحف مصغّر، أو مركز للموضة والتصميم، أو صالة عرض تستعيد سيرة شارع عماد الدين.

ختامًا… الذاكرة لا تُهدم

تُعد عمارة عدس مرآة زمن لم يعد، لكنها أيضًا جرس إنذار لمستقبل لا يجب أن يفقد جذوره. إن لم تُنقذ هذه المباني الآن، فسنفقد ليس فقط حجارتها، بل الحكايات التي تنبض بين جدرانها.

لقد آن الأوان أن تُدرج عمارة عدس في قوائم التراث التي تستحق الحماية والرعاية. فالتاريخ الذي لا يُرمم، سرعان ما ينسى.

مشاركة

إرسال التعليق