حين حاولت القاهرة أن تكون باريس… حكاية العمارات الخديوية الأربع
وسط صخب القاهرة المعاصرة، وتحت طبقات من الضجيج والتحولات، تقف أربع عمارات شامخة في شارع عماد الدين بوسط البلد، كأنها تنتمي إلى زمن آخر. واجهاتها تشهد على عصر أراد أن يجعل من القاهرة نسخة شرقية من باريس، وقبابها العالية تنطق باسم الخديوي إسماعيل ورؤيته الطموحة. هذه ليست مجرد أبنية، بل سردية معمارية عمرها أكثر من قرن، تختزن بين جدرانها قصة مدينة حاولت أن تتجمّل بالحضارة.
شارع عماد الدين… المسرح الكبير لنهضة القاهرة
يُعد شارع عماد الدين واحدًا من الشرايين الثقافية والتجارية والتاريخية الأهم في قلب القاهرة الخديوية. منذ نهايات القرن التاسع عشر، تحول الشارع إلى مركز للحياة الفنية، حيث ازدهرت المسارح، ودور السينما، والمقاهي الثقافية. في هذا السياق، ظهرت العمارات الأربع التي عُرفت باسم “العمارات الخديوية”، كجزء من مشروع عمراني ضخم يقوده الخديوي عباس حلمي الثاني، لتحديث القاهرة بما يتماشى مع مدن أوروبا.
ولادة المعمار… من مخيلة إيطالية إلى واقع مصري
شُيّدت العمارات الأربع عام 1911، بتصميم من المعماري الإيطالي الشهير أنطونيو لاشياك، الذي استلهم الطراز الأوروبي الكلاسيكي، خاصة طراز “الباروك الجديد”، وأضاف إليه لمسة من العمارة المتوسطية. كان لاشياك قد صمّم من قبل العديد من القصور الخديوية، وكان يؤمن بأن المعمار لا يجب أن يكون مجرد بناء بل “نحتًا للهوية في الفراغ”.
شُيّدت العمارات على مساحة تقارب 9000 متر مربع، وتتكون كل منها من سبعة طوابق، ويعلوها قبة دائرية ضخمة مزينة بزخارف منحوتة. وقد كانت تلك القباب تُرى من أماكن بعيدة، حتى من جزيرة المنيل، قبل أن تحجبها العمارات العشوائية الحديثة.
العمارات الأربع… سرد تفصيلي
1. العمارة رقم 11 و15
تقعان على الناصية المقابلة لسينما “كريم” الحالية. تتميزان بفناء داخلي يتوسطه نافورة حجرية، وشرفات واسعة تربط الطوابق العليا. كانت الشقق مخصصة لطبقة الباشوات والأجانب، وتضم قاعات استقبال واسعة ذات سقوف مزخرفة.
2. العمارة رقم 14 و18
تطلان على الجزء الأوسط من شارع عماد الدين، وتمتازان بشرفة كبيرة ممتدة على واجهتهما الأمامية، ذات أعمدة وأقواس حجرية نادرة. تتمتع العمارتان بدرج رخامي داخلي لا يزال يحتفظ بأناقته الأصلية، رغم الإهمال.
كل عمارة كانت تضم نظامًا متكاملًا للتهوية والإنارة، بالإضافة إلى غرف مخصصة للخدم، ومداخل مزدوجة تفصل بين سكان الشقق والزائرين.
دور اجتماعي وثقافي سابق لعصره
كانت هذه العمارات أول تطبيق لفكرة “المجمع السكني الراقي” في القاهرة، حيث تم تصميمها لتوفر مستوى غير مسبوق من الخصوصية والفخامة والراحة، دون الحاجة إلى الخروج من المبنى. كما خُصّصت الطوابق الأرضية للمحال التجارية الراقية والمقاهي والمكاتب، ما جعلها نموذجًا مبكرًا لفكرة “المدينة الرأسية”.
ومن الجدير بالذكر أن سكان هذه العمارات شكلوا نسيجًا من الأرستقراطيين المصريين، والأجانب من الطليان والفرنسيين واليونانيين، الذين وجدوا في القاهرة الخديوية وطنًا بديلًا.
الإهمال والتآكل… سقوط جزئي لبهاء الماضي
مع مرور الوقت، وخصوصًا بعد ثورة يوليو 1952، تغيّر المشهد السكاني والوظيفي للعمارات. فرضت قوانين الإيجارات الجديدة واقعًا اقتصاديًا أدى إلى عزوف المُلّاك عن الصيانة والترميم. وسرعان ما تحولت الشقق الفخمة إلى مكاتب أو وحدات صغيرة مؤجرة، وفُقدت ملامح الفخامة تدريجيًا.
ازدادت الكارثة بفعل التعديات على الواجهات، وإضافة لافتات تجارية مشوهة، وظهور طبقات من الطلاء الرديء الذي غطى الزخارف الأصلية. حتى القباب، التي كانت تاج العمارات، تعرضت لتشوهات وتصدعات.
مشروعات الترميم… بين الأمل والتنفيذ البطيء
في عام 2015، أطلقت محافظة القاهرة بالشراكة مع جهاز التنسيق الحضاري مبادرة لإحياء القاهرة الخديوية، وكانت العمارات الأربع ضمن أولويات الترميم.
شملت الخطة طلاء الواجهات، وإزالة اللافتات المخالفة، وتوحيد لافتات المحال، وتركيب إضاءة معمارية. ولكن التطبيق الأولي أثار جدلًا واسعًا بعد طلاء العمارات بلون أصفر غريب غطى على التفاصيل الجمالية.
لاحقًا، تم تعديل الألوان إلى درجات أهدأ من البني والطوبي، وبدأت أعمال تدعيم الشرفات وتنظيف الواجهات، لكن لم تشمل الأعمال أي ترميم داخلي حقيقي بسبب القيود القانونية والإدارية المتعلقة بوضع المُلّاك والمستأجرين.
رؤية مستقبلية… كيف نعيد الحياة لهذه الجواهر؟
ترميم العمارات الخديوية لا ينبغي أن يتوقف عند الواجهة. المطلوب هو مشروع متعدد الأبعاد يعيد توظيف هذه العمارات بطريقة تحافظ على تاريخها، وتمنحها دورًا عصريًا: تحويل بعضها إلى متاحف مصغرة للعمارة، أو معارض فنية، أو حتى فنادق تراثية صغيرة كما هو الحال في إسطنبول وفينا وبودابست.
وينبغي أن تتوافر إرادة سياسية ومجتمعية لحماية هذه الأصول، وسن تشريعات تُسهل عمليات إعادة التأهيل دون إخلاء السكان قسرًا أو الإضرار بحقوقهم.
ختاماً… حين يُصبح الحجر شاهدًا على الحلم
العمارات الخديوية الأربع ليست مجرد مبانٍ، بل ذاكرة حية تُجسد لحظة تاريخية أراد فيها المصريون أن يعيشوا في مدينة عصرية، أنيقة، منظمة.
كل شرفة فيها تحكي قصة، كل قوس حجري يحمل أثر معمار حلم بأن يترك أثرًا لا يندثر.
مشاركة
إرسال التعليق