مجوهرات بايوكي… حين تلمع ذاكرة القاهرة على واجهات الذهب

 

بايوكي… بريق لا يخفت في مدينة تتغير كل يوم

في قلب القاهرة، حيث تختلط رائحة الزمن بعوادم الحاضر، تقف واجهة خشبية أنيقة على شارع عبد الخالق ثروت، كتب عليها بحروف لاتينية مذهبّة “BAJOCCHI” — علامة تكاد تكون غير ملحوظة لمن يركضون خلف الزمن، لكنها توقظ كل من يسير خلف أثر التاريخ. إنها مجوهرات “بايوكي”، أقدم محلات الذهب في مصر، وحارس ذاكرة تتجاوز الـ130 عامًا من الحكايات، والأناقة، والمجد.

من إيطاليا إلى مصر… ميلاد الاسم وسط الذهب

يبدأ تاريخ بايوكي في نهايات القرن التاسع عشر، حين وصل “باولو بايوكي”، الصائغ الإيطالي النبيل، إلى مصر عام 1890. جاء بايوكي في عهد الخديوي إسماعيل، حاملاً معه تراث عائلي من صياغة المجوهرات، ومنذ أن وطأت قدماه القاهرة، اختار أن يكون له موطئ في وسطها النابض بالحياة. لم يكن محل بايوكي مجرد متجر لبيع الحلي، بل تحول إلى عنوان للفخامة، ومرجع للذوق الملكي الرفيع.

أسس بايوكي مكانته في البلاط الخديوي، وعُيِّن صائغًا رسميًا للعائلة المالكة. وعلى مدار عقود، صاغ للملوك والملكات، للأميرات والنبلاء، قطعًا نادرة باتت جزءًا من التاريخ المصري، منها ما زال معروضًا في المتاحف، ومنها ما بقي في خزائن عائلات عريقة.

دخل محل بايوكى موسوعة جينيس للأرقام القياسية بسبب الاحتفاظ بخزانة حديدية على نفس طرازها وحجمها اللى وصل لمتر عرض ومتر ارتفاع وعمق 2 متر وباب حديدى سمكه اكتر من 3 سم، وتم صناعة الخزانة فى ايطاليا ونقلت لمصر بالبواخر البحرية.

وصف المحل…عمارة الزمن وذاكرة الخشب

من الخارج، يبدو محل بايوكي كأنه مشهد محفوظ من فيلم أبيض وأسود. الواجهة الخشبية التي لم تُطلَ منذ أكثر من نصف قرن، الزجاج العتيق المطبوع عليه اسم المحل، والإضاءة الخافتة التي تتسلل من بين المصابيح القديمة، كلها عناصر تعيدك لعصر آخر.

في الداخل، تُقابلك واجهات العرض الخشبية المُطعّمة بالنحاس وماء الذهب، وأسقف مزخرفة بزخارف أوروبية تشي بروح المكان. الساعة الكبيرة القديمة لا تزال تدق، وصورة باولو بايوكي ما زالت معلقة خلف الكاونتر، شاهدة على أجيال مرت من هنا، لتبيع وتشتري وتُورِّث.

IMG-20250529-WA0031-631x1024 مجوهرات بايوكي… حين تلمع ذاكرة القاهرة على واجهات الذهب

 

زبائن من زمن الكبار… من أم كلثوم إلى الوزراء

لم يكن بايوكي محلًا شعبيًا بالمفهوم التقليدي، بل كان وما يزال محل نخبة مصر. كانت كوكب الشرق “أم كلثوم” زبونة دائمة للمحل، وتقول الروايات الشفهية إن بعض المجوهرات التي ارتدتها في حفلاتها الشهيرة صيغت خصيصًا لها هنا. كما كان رؤساء وزراء ووزراء سابقون يزورون المحل بأنفسهم أو يبعثون مندوبين لاختيار هدايا رسمية وشخصية.

كما اختار الرئيس انور السادات “بايوكي” ليشترى شبكة مراته منه، و حضور مرات شاه إيران وملك ايطاليا باستمرار للمحل.

من ورشة ملكية إلى فن نادر

مجوهرات بايوكي لم تكن تعتمد فقط على جمال الأحجار أو قيمة الذهب، بل على “الصنعة”. الحفر اليدوي، الترصيع باليد، والصقل بحرفية عتيقة، كل ذلك جعل من كل قطعة ذهبية تُنتَج هنا عملًا فنيًا لا يتكرر.

تحتفظ العائلة، حتى اليوم، بكرّاسات التصميمات الأصلية التي تعود لبدايات القرن العشرين. هذه الكراسات تعتبر بمثابة “أرشيف خاص” لفن صياغة الذهب المصري الأوروبي، وتُستخدم أحيانًا لإعادة إنتاج بعض التصميمات القديمة بطلب خاص من زبائن حريصين على اقتناء القطع الكلاسيكية.

الزمن يتغير… وبايوكي يصمد

مع تغير الأذواق، وصعود ثقافة “الذهب الحديث”، وتراجع مفهوم “الصياغة الفنية”، اختفى كثير من المحال العريقة، أو تحولت إلى واجهات لبيع الذهب بالوزن فقط. إلا أن بايوكي اختار طريقًا آخر: المقاومة. احتفظ بهويته، ولم يُحدث المحل داخليًا منذ عقود. لم تُستبدل الواجهة، ولم تُبدل واجهات العرض، كما لم تُستقدم خطوط إنتاج حديثة.

ورغم أن البعض يعتبر هذا “جمودًا”، فإن المئات ممن يزورون المحل يرون فيه متحفًا حيًا أكثر من كونه محلًا. يقصده عشاق النوستالجيا، والباحثون عن هدايا ذات قيمة تاريخية، بل وحتى طلاب الفنون الجميلة الذين يدرسون الزخرفة والديكور.

جيل جديد… وعبء المجد

يدير المحل اليوم بيترو بايوكي وهو ابن الجيل الرابع ، والذي ولد وتربى في مصر، لكنه ظل متمسكًا بجذوره الأوروبية وهويته المصرية في آن. يعمل معه عدد قليل من الموظفين، بينهم من قضى أكثر من 40 عامًا في المحل. لا يعتمد بايوكي على وسائل تسويق حديثة أو حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، بل على سمعته التي بنتها عشرات السنين من الثقة والتميّز.

ختاماً… ذهب لا يصدأ وتاريخ لا يبهت

في مدينة تجرفها التحولات، وتُهدم فيها العمارات الأنيقة كل يوم، يقف بايوكي كعلامة مقاومة. لا لمجرد أنه يبيع الذهب، بل لأنه يروي قصة مدينة كانت يومًا ملتقى للحضارات والذوق الرفيع، مدينة كانت تعرف أن القيمة لا تُقاس فقط بالوزن، بل بالأثر.

مجوهرات بايوكي ليست فقط محلًا في شارع مزدحم بوسط البلد، بل هي ذاكرة تُلبس، وتُهدى، وتُحتفظ بها للأجيال

 

IMG-20250529-WA0030-548x1024 مجوهرات بايوكي… حين تلمع ذاكرة القاهرة على واجهات الذهب

مشاركة

إرسال التعليق