شارع المعز… قلب القاهرة النابض بالتاريخ والهوية
عندما تطأ قدماك شارع المعز لدين الله الفاطمي في قلب القاهرة القديمة، لا تدخل مجرد شارع، بل تعبر إلى داخل كتاب مفتوح من طبقات الزمن. هو ليس شارعًا فحسب، بل ممرًا تتقاطع فيه السياسة بالدين، والتجارة بالمعمار، والحكايات الشعبية بالذاكرة القومية. يُمكن اعتبار شارع المعز أشبه بشريان يغذي القاهرة بتاريخها، ومتحفًا مفتوحًا للتراث الإسلامي من الفاطميين وحتى العثمانيين.
النشأة السياسية والعسكرية لشارع المعز
تعود أصول شارع المعز إلى عام 969 ميلاديًا، حينما أسّس القائد جوهر الصقلي، بأمر من الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، مدينة القاهرة كعاصمة للخلافة الفاطمية. وكان الشارع هو المحور المركزي لتخطيط المدينة، يُعرف آنذاك بـ”الشارع الأعظم” أو “قصبة القاهرة”.
تمحور التخطيط الفاطمي حول هذا الشارع، الذي امتد من باب الفتوح شمالًا حتى باب زويلة جنوبًا، وكان يربط بين قصرين فاطميين رئيسيين هما “القصر الكبير الشرقي” و”القصر الغربي الصغير”. وبين القصرين، كانت هناك مساحة فارغة تُعرف بـ”بين القصرين”، أصبحت لاحقًا مكانًا للأحداث الجِسام، من الاحتفالات إلى الجنازات والمواجهات السياسية.
شارع المعز كمجال للسلطة الدينية والسياسية
لم يكن الشارع مجرد محور عمراني، بل ساحة للتمظهر السياسي والهيبة الدينية. فقد شهد احتفالات رسمية للخلفاء، ومواكب الأعياد، والبيعة، وخروج الجيوش. وكان الخليفة يظهر في موكب مهيب، تحيط به رموز الدولة والجيش، مرورًا بجوامع الشارع التي لم تكن فقط بيوت عبادة، بل منابر خطاب سياسي وعقائدي.
مع الزمن، تحول الشارع من طابع فاطمي شيعي إلى ساحة تتعايش فيها مدارس سُنية ومؤسسات مملوكية وعثمانية. فالمعز لم يعد شارعًا فاطميًا بحتًا، بل توليفة متعددة الطوابق السياسية والمذهبية.
المعمار.. فن السلطة والشعب
شارع المعز يُعد معرضًا متكاملاً لتطور العمارة الإسلامية في مصر. من الجامع الفاطمي مثل جامع الأقمر، الذي استخدم لأول مرة الواجهة المزخرفة المنحرفة مع خط الشارع، إلى مجموعة السلطان قلاوون المملوكية، التي جمعت بين المدرسة والمستشفى والضريح في تكامل عمراني وإنساني فريد.
يحتوي شارع المعز على أكثر من 30 معلمًا أثريًا يعود تاريخها إلى عصور مختلفة، من العصر الفاطمي حتى العصر العثماني. من أبرز هذه المعالم:
باب الفتوح وباب زويلة: من أقدم بوابات القاهرة، شُيدتا في القرن الحادي عشر الميلادي.
جامع الحاكم بأمر الله: بُني بين عامي 990 و1013 ميلاديًا، ويُعد من أكبر مساجد القاهرة .
جامع الأقمر: يتميز بواجهته المزخرفة، ويُعتبر مثالًا فريدًا للعمارة الفاطمية.
قصر الأمير بشتاك: يُظهر روعة العمارة المملوكية.
مجموعة السلطان قلاوون: تضم مسجدًا ومدرسة ومستشفى، وتُعد من أبرز المعالم المملوكية.
بيت السحيمي: منزل تقليدي يعكس الحياة اليومية في القاهرة القديمة.
كل مبنى في شارع المعز هو شاهد معماري على طبقة من تاريخ مصر، من حيث الزخارف، والأبواب الخشبية، والمقرنصات، والأعمدة، وصولًا إلى النقوش القرآنية والسياسية.
الترميم… صراع بين الذاكرة والتجديد
شهد شارع المعز مشاريع ترميم كبرى، أبرزها في 2008 تحت إشراف وزارة الثقافة، بتمويل مصري ودعم من اليونسكو، لتحويله إلى أول “متحف مفتوح” للعمارة الإسلامية. شمل المشروع ترميم 34 مبنى أثريًا، وتجهيز إنارة ليلية تُبرز الزخارف، وتعبيد الأرضيات بحجر البازلت.
لكن مشاريع الترميم لم تخلُ من جدل:
هل تم الحفاظ على الروح الأصلية أم جرى تلميع السطح فقط؟
هل انحازت الترميمات للهوية أم للاستثمار السياحي؟
ما مصير سكان الشارع الأصليين؟ وهل يمكن التوفيق بين الحياة المعاصرة والتراث؟
هذه الأسئلة تبقى مفتوحة في نقاشات علماء التراث والحضر المصريين.
الشارع ككائن حي
رغم قدمه، فإن شارع المعز لا يعيش في الماضي. هو شارع حيوي يعج بالأنشطة اليومية أبرزها:
أسواق الحرف اليدوية: النحاس، الفخار، الأرابيسك، كلها ما تزال تُصنع وتُباع.
عروض فنية في الهواء الطلق: فرقة التنورة، العروض الصوفية، الموسيقى الشعبية.
المقاهي والمطاعم التقليدية: التي تجمع بين الزوار والمقيمين في نسيج اجتماعي حي.
في رمضان، يتحول المعز إلى عالم آخر: زينة معلقة، إنشاد ديني، موائد الرحمن، والازدحام يضاهي ما كان في مواكب الخلفاء الفاطميين.
شارع المعز كذاكرة وطنية
المعز ليس تراثًا إسلاميًا فقط، بل ذاكرة وطنية. شهد تحولات اجتماعية ضخمة، من زمن الخلفاء إلى زمن الثوار. مرّت به جيوش الحملة الفرنسية، كما سار فيه فدائيو 1919، وشهد احتفالات ثورة يوليو، وبقي صامدًا خلال احتجاجات الربيع العربي.
يعيش الشارع اليوم حالة استثنائية من الاندماج بين الماضي والحاضر، حيث يتجول الزائر بين التاريخ لا من خلال الكتب، بل تحت قدميه وعلى الجدران من حوله.
الشارع كائن حي لا يشيخ
في شارع المعز، لا تسير فقط في الزمن، بل تسير مع الزمن. تحاوره وتفك شفراته وتُعيد اكتشاف القاهرة كل مرة. إنه شارع مقاوم للزوال، ومُجدد للهوية، وذاكرة تسكن الجدران والقلوب.
فمن أراد أن يفهم مصر، لن يبدأ من المتحف المصري، بل من هذا الشارع: حيث يسير التاريخ على الأرض لا في زجاج المتاحف.
مشاركة
إرسال التعليق